الاثنين, 03 نوفمبر 2025
مادة إعلانية

مسار تاريخ: -من المسيرة إلى المصير: خمسون سنة من الحلم الذي صار وطنا

السبت 01 نوفمبر 2025
مسار تاريخ: -من المسيرة إلى المصير: خمسون سنة من الحلم الذي صار وطنا

كنت طفلا في العاشرة من عمري حين دوى في السماء نداء الوطن سنة 1975. لم أكن أدرك تماما معنى أن يسير شعب بأكمله خلف ملكه نحو الصحراء، لكني كنت أحس في داخلي بأن شيئا عظيما يحدث، شيئا يتجاوز حدود طفولتي الضيقة. كانت القرية تغلي بالفرح، والناس يتهامسون كأنهم على موعد مع قدر طال انتظاره. رأيت في عيون الرجال بريقا يشبه العزم، وفي عيون النساء دموعا تمزج بين الخوف والفخر. حملت مجموعة من أفراد قبيلتنا "مرنيسة" الذين كانوا مجتمعين في شاحنات قديمة من نوع "فورد" و"بيرلي" وأمام مقر القيادة التي كانت مقابلة لمدرستنا "كعب بن زهير"، حملوا علم المغرب على كتفهم وأمتعتهم، وكتاب المصحف في أيديهم والتي وزعت عليهم من طرف المنظمين، ومتوجهين نحو مدينة تازة عاصمة الإقليم أنذاك، وقالوا لنا وهم يودعننا: “ناموا يا صغارينا، فغدا سيكون للوطن جناحان.” لم أفهم كلماتهم إلا بعد عقود.


كانت المسيرة الخضراء بالنسبة لي لحظة الميلاد الأول للانتماء. كانت أول مرة أحس فيها أن الوطن ليس خريطة في كتاب الجغرافيا الذي بدأنا نتعلمها ، بل وجوه الناس الذين يرفعون الراية ويمشون على رمالهم بثقة الأنبياء. كان كل شيء يبدو بسيطا في ظاهره، لكنه في العمق كان تأسيسا لهوية جديدة: هوية تؤمن أن المغرب لا يفرط في ترابه، وأن الشعب يمكن أن يكون جيشا حين تستدعيه الذاكرة.


مرت السنوات، ومرت معي فصول الوطن كلها: انتصارات وخيبات، إصلاحات وأحلام مؤجلة، لكن خيط الصحراء ظل يشد وجداننا جميعا. كبرنا على وقع نشرات الأخبار، وحوارات المقاهي، وتفاصيل المعارك الدبلوماسية التي لم تهدأ يوما. كانت قضية الصحراء بالنسبة لجيلنا ليست مجرد ملف سياسي، بل امتحانا مستمرا للوفاء والوعي. كلما ظن العالم أن المغرب تعب، أطل من جديد أكثر إصرارا وأشد رسوخا في حقه.


واليوم، بعد نصف قرن بالتمام، وجدتني أعيش اللحظة الثانية، لحظة طيّ الملف، لحظة نهاية النزاع الذي رافقنا من المهد إلى الكهولة. وأنا أتابع القرار الأممي اليوم الذي هو 31 أكتوبر، أحسست أن ذلك الطفل الذي كان يراقب المسيرة الخضراء من نافذة المدرسة ومن نافذة البيت، قد عاد ليبتسم من جديد. لقد صدق الوطن وعده، وصبره أثمر اعترافا وشرعية وانتصارا ديبلوماسيا غير مسبوق. كانت المشاعر تتقاطع داخلي بين الفخر والحنين، بين استحضار التاريخ والركون إلى الأمل.


في تلك اللحظة، بدا لي الزمن كأنه دائرة مغلقة: بدأت طفلا في المسيرة الخضراء، وانتهيت كهلا في لحظة استرجاع المعنى الكامل للوطن. خمسون سنة مرت كأنها رمشة عين، لكنها كانت كافية لتثبت أن المغرب لا ينسى قضاياه، ولا يترك مصيره رهينة للصدف أو الإملاءات. من المسيرة الخضراء إلى قرارات مجلس الأمن اليوم، كان الخط واحدا، لا يتغير: الدفاع عن السيادة بالشرعية، وعن الحق بالحكمة، وعن الأرض بالإيمان العميق بأنها ليست ترابا فقط، بل ذاكرة أمة.


رأيت في وجوه الجيل الجديد بالشارع العام وخصوصا مع ابنتي ذات ربيعها العشرين، هذا الجيل الذي لم يعش المسيرة الخضراء ما رأيته في وجوه الكبار آنذاك: نفس العزيمة، ونفس الفخر، ونفس الإحساس بأننا شعب يصنع التاريخ على مهل، لكن بثبات. وبين المسيرتين، الأولى في الصحراء والثانية نحو الاعتراف الدولي، أدركت أن الأوطان لا تبنى بالانفعال بل بالصبر الطويل، ولا تنتصر بالصوت العالي بل بحكمة الموقف.


اليوم وفي هذه الأمسية بالذات، وأنا أكتب هذه السطور، أحس أنني كنت شاهدا على لحظتين تختصران نصف قرن من الوجدان المغربي. لحظتان تؤكدان أن الوطن لا يمنح، بل ينتزع بالثقة والوحدة والوفاء. ما بين صحراء الأمس وصحراء اليوم، قصة مغرب آمن بنفسه فآمن به العالم. قصة بدأت بخطوات على الرمال، وانتهت بصفحة مشرقة في كتاب الأمم.


لقد اكتملت الدائرة، وسكن القلب سلام يشبه رضا الأجداد حين يرون رايتهم خفاقة. خمسون سنة من الإيمان والعناد والانتظار، لتقول الصحراء أخيرا كلمتها: أنا مغربية كما كنت وكما سأبقى.

مقالات ذات صلة

حين صوّت العالم… واصل البعض الصراخ في الفراغ
كتاب وآراء

حين صوّت العالم… واصل البعض الصراخ في الفراغ

بقلم : يوسف وفقير بينما أتصفح مواقع التواصل الاجتماعي أتابع فرحة المغاربة وبعض ردود الفعل التي أعقبت تصويت مجلس الأمن...

0 تعليقات
الغش في مباريات التوظيف: جريمة مؤسسية تُجهض الإصلاح .
كتاب وآراء

الغش في مباريات التوظيف: جريمة مؤسسية تُجهض الإصلاح .

الغش في مباريات التوظيف هو أحد أخطر أشكال الفساد الذي يضرب في صميم العدالة وتكافؤ الفرص، ويفقد ثقة المواطنين في المؤسسات....

0 تعليقات

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية لتصلك التحديثات الجديدة يوميًا

نحن نحترم خصوصيتك. لن نشارك بريدك مع أي طرف ثالث.

تعليقات الزوار (0)

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا المقال

أضف تعليقًا

سيتم مراجعة تعليقك قبل النشر

اشترك في نشرتنا البريدية

احصل على آخر الأخبار والتحديثات مباشرة إلى بريدك الإلكتروني

جميع الحقوق محفوظة لموقع bawabapress.com © 2025
شروط الاستخدام سياسة الخصوصية تم إنشاء وإدارة الموقع بواسطة AppGeniusSARL