يوسف وفقير - الرباط
مرة أخرى، يتبارى ممثلو الأمة في البرلمان لا على مشاريع تنفع الناس، بل على من يتقن فن تبادل التهم أكثر. الأغلبية تصرخ في وجه المعارضة: أنتم عدميون تهدمون ولا تبنون! والمعارضة ترد بجرأة: الأغلبية عدد بلا معنى وحكومة من "الوزراء الكسالى"!! ...وبين الصراخ والرد، يضيع صوت المواطن الذي لم يبعث أحدا ليتحدث باسمه بهذه اللغة الخشبية.
في الجلسة الأخيرة لمناقشة الجزء الأول من قانون المالية، اختارت الأغلبية أن ترفع شعار "محاربة المال المشبوه" والعدمية السياسية، معتبرة أن المعارضة تسخر من كل إنجاز وتضعف الثقة في المؤسسات: فقال رئيس فريق التجمع الوطني للأحرار إن العدمية "مرض يصيب الحياة السياسية"، وأن من السهل أن نهدم لكن من الصعب أن نبني. أما زميله من الأصالة والمعاصرة فراح يعدد إنجازات الحكومة بالأرقام، من النمو إلى المداخيل الجبائية، مرورا بالدعم المباشر الذي سيرتفع إلى 29 مليار درهم سنة 2026. وحتى الفريق الاستقلالي دخل على الخط، مطالبا بإبعاد "تجار الأزمات" والمال المشبوه عن السياسة، مؤكدا أنه لا مكان للمفسدين في تدبير الشأن العام.
كل شيء جميل في الخطاب، لولا أن الواقع شيء آخر. فالمواطن الذي يسمع كل هذه الخطب لا يرى لا إنجازا ولا تلاحما، بل يرى الأسعار ترتفع والقدرة الشرائية تنهار، و"العدمية" الوحيدة التي يعرفها هي عدمية الجيب حين يفرغ في منتصف الشهر.
لكن المعارضة لم تفوت الفرصة لترد الصاع صاعين. عبد الرحيم شهيد، رئيس الفريق الاشتراكي، انتقد "الأغلبية العددية التي لا تصنع التاريخ"، وقال إن نواب الأغلبية يبدؤون مداخلاتهم بالثناء على الحكومة وينتهون بالاحتجاج عليها، في مفارقة تثير الشفقة لا الإعجاب. أما إدريس السنتيسي، رئيس الفريق الحركي، فاختصرها في جملة قاسية: "عندنا وزراء كسالى ما كيعرفوش يديرو والو"، قبل أن يستثني فوزي لقجع باعتباره الوزير الوحيد "اللي عندو تراكم". أحمد العبادي من التقدم والاشتراكية بدوره تحدث عن وعود مليون منصب شغل التي تبخرت، وعن الهدر في المال العام، وعن الفقر والهشاشة التي تتفاقم في القرى. وجاء دور عبد الله بوانو، الذي رمى الحكومة بتهم ثقيلة: "سطو على إنجازات الملك"، وبمقولته الشهيرة: تضارب المصالح والصفقات، والسطو تحت الأضواء الكاشفة، بل واعتبرها "حكومة الفراقشية" التي حرمت المغاربة من عيد الأضحى.
في خضم هذا السباق في توزيع الأوصاف، يحق لنا أن نسأل: واش المواطن خاصو يسمع "عدمية المعارضة" ولا "كسل الوزراء"؟ واش الجدل حول من سرق الإنجاز أهم ممن سرق أحلام الناس في التعليم والصحة والشغل الكريم؟ الأغلبية تتحدث عن المفسدين والمال المشبوه، والمعارضة ترد بالاحتجاجات والصفقات، ولكن الطرفين معا ينسون أن الفساد الحقيقي هو لما تفقد النخبة السياسية ثقة المواطن فيها، ولما يشعر المغاربة أن كل هذا النقاش مجرد مسرحية لا بطل فيها إلا الصراع على الكراسي.
في القرى والبوادي، حيث تبدأ أولى قطرات المطر، لا يسمع الناس صدى هذه الخطب. يسمعون فقط هدير السيول التي تقطع الطرق وتعزلهم عن العالم. هناك، لا يعرف الناس أسماء الوزراء ولا رؤساء الفرق، يعرفون فقط أن الطريق غير معبدة، وأن المستوصف مغلق، وأن المعلم يغيب، وأن الإدارة بعيدة. هناك، السياسة ليست لون حزب ولا شعار برنامج، بل حفرة في طريق تغرق عجلات الإسعاف، وقنطرة متهالكة تفصلهم عن الأسواق، وشباب بلا شغل يرحلون في صمت.
فيماذا سينفع الفلاح الصغير في زاكورة أو طاطا أن يسمع أن المعارضة عدَمية أو أن الوزير كسول؟ وماذا سيفعل التلميذ الذي يقطع الكيلومترات في البرد ليسمع أن "المالية العمومية بخير"؟ هذا التراشق بين الأغلبية والمعارضة قد يملأ القنوات والمواقع، لكنه لا يملأ ثلاجة المواطن ولا يعيد له كرامته.
البلاد اليوم لا تحتاج إلى معارضة تلعن ولا إلى أغلبية تبرر، بل إلى سياسة تنصت. إلى برلمان يرفع رأسه نحو المغرب المنسي لا نحو الكاميرات. فالمغرب لا يبنى بالخطب ولا بالأرقام التي تقال في القبة، بل بتلك الطرق التي تعبد في صمت، والمدارس التي تفتح دون ضجيج، والمستشفيات التي تداوي الفقراء دون مواعيد مسبقة.
في النهاية، قد تتغير الأغلبية وقد تتبدل المعارضة، لكن الفقر لا يتغير، والوحل نفسه ينتظر أولى قطرات الشتاء ليبتلع ما تبقى من وعودهم.
البوابة بريس - الرباطبعد جلسة ماراثونية دامت لساعات طوال، صادق مجلس النواب بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية...
يوسف وفقير - الرباطارتفعت وتيرة الانتقادات داخل لجنة البنيات الأساسية والطاقة والمعادن والبيئة بمجلس النواب، بعد أن وضع وزير التجهيز...
اشترك في النشرة الإخبارية لتصلك التحديثات الجديدة يوميًا
كن أول من يعلق على هذا المقال
احصل على آخر الأخبار والتحديثات مباشرة إلى بريدك الإلكتروني