بقلم: عبد العزيز الخبشي
تعيش مدينة فاس منذ أشهر على إيقاع أشغال متواصلة شملت بعض أحيائها، من محاور طرقية رئيسية إلى مداخل المدينة ومخارجها، مرورا ببعض الأحياء العتيقة والمناطق السكنية الجديدة، في ما يبدو للوهلة الأولى أنه حراك تنموي مستحق طال انتظاره. لا شك أن هذه الأشغال – نظريا - تستجيب لحاجة موضوعية إلى تأهيل البنية التحتية المتقادمة، وتوسيع النسيج الحضري الذي اختنق تحت وطأة النمو الديموغرافي العشوائي، وضغط حركة السير التي لم تعد المسالك التقليدية قادرة على استيعابها. غير أن منسوب الإيجابية هذا سرعان ما يتبخر حين نضع ما يجري تحت مجهر التحليل التقني، ونفكك منطق التدبير الذي يؤطر هذه الأوراش، فنصطدم بواقع لا يعكس سوى ارتجالاً واضحاً، وغياباً لبعد استراتيجي يجعل من التهيئة رهينة اللحظة لا المستقبل.
ذلك أن الأشغال الجارية، وإن اتسمت بحجمها المادي، تفتقر في جوهرها إلى تصورات عمرانية مندمجة تستشرف تحولات المدينة وتستبق حاجياتها المستقبلية. فالمقاربة التي تحكمها لا تتجاوز حدود التدخلات الترقيعية، ولا ترقى إلى مستوى التخطيط الحضري الحديث القائم على أدوات استشرافية، قادرة على ربط مشاريع التهيئة بالتحولات السوسيو-اقتصادية والبيئية. إن إعادة تزفيت بعض المحاور أو توسيع بعض الأرصفة لا يعني بالضرورة أننا في صلب مشروع تنموي، بل في أحيان كثيرة لا يعدو أن يكون تكرارا لدورات إصلاحية سابقة تستهلك المال العام دون ضمانات للفعالية والاستدامة.
والمفارقة الكبرى أن هذه الأشغال ليست مبرمجة ضمن مشاريع المجلس الجماعي، ولا تدخل في إطار برنامج عمل جماعة فاس للفترة 2021 – 2027، مما يطرح سؤالا جوهريا حول مدى انسجامها مع الرؤية الاستراتيجية للمدينة، وحول حدود التنسيق بين مختلف الفاعلين المؤسساتيين. وإذا كان تمويل هذه الأشغال يدخل ضمن التحضيرات الكبرى التي أطلقتها الدولة استعدادا لاحتضان بلادنا لكأس إفريقيا للأمم 2025 وكأس العالم 2030، فإن ذلك لا يعفي المصالح التقنية للجماعة من مسؤولية التتبع والمراقبة والتنسيق، باعتبارها الجهة المنتخبة التي تمثل الساكنة، وتملك شرعية تدبير الشأن الترابي المحلي. هنا يُطرح سؤال عميق حول دور الجماعات الترابية في مثل هذه الحالات: هل تتحول إلى مجرد متفرج على مشاريع تُنفذ فوق ترابها دون مساهمتها الفعلية في إعدادها أو مراقبتها أو توجيهها؟ أم أنها معنية جوهريا بتأطير هذه المشاريع وربطها بالأولويات التنموية المحلية؟ إن غياب المراقبة الجماعية، وضعف التنسيق المؤسسي، يكشفان عن اختلال في منطق الحكامة المجالية، ويضربان في العمق مبدأ التشاركية والديمقراطية المحلية.
وإذا كان الأمر يتعلق بميزانية استثنائية تم رصدها خصيصا للبنية التحتية، فإن من الواجب استثمار هذه الفرصة لتوسيع نطاق الاستفادة نحو الأحياء الهامشية التي ظلت لعقود خارج دائرة الاهتمام المؤسساتي، والتي تنتج الفقر والتهميش والإقصاء الاجتماعي، كأحياء بن دباب، وبن سودة، والجنانات، وسهب الورد، والمسيرة، وغيرها من الفضاءات التي تشكل الجهة المعتمة من جسد المدينة. إن إعادة تأهيل هذه الأحياء، وتحديث شبكاتها الطرقية والصرف الصحي، وتحسين مرافقها العمومية، يجب أن يكون في صلب أي تصور تنموي يروم العدالة المجالية والكرامة الحضرية. وفي المقابل، ما دامت الميزانية المركزية تم توجيهها أساسا للبنيات التحتية، فإن من الحكمة والنجاعة أن تُصرف الاعتمادات الجماعية والجهوية والإقليمية المرصودة للمدينة في مشاريع أخرى ذات طبيعة اجتماعية وثقافية وتعليمية وصحية، بما يضمن تكاملا وظيفيا في توزيع الاستثمارات العمومية، ويحول دون تكرار النفقات على نفس المجالات، أو احتكار التمويل من طرف مكونات عمرانية دون غيرها.
الغياب التام لممرات أرضية في كبريات المدارات التي تشكل شرايين المدينة يبرز خللا بنيويا في تصور انسيابية الحركة الحضرية. فمدخل طريق إيموزار، ومدخل طريق صفرو، ومدخل طريق عين السمن المؤدي إلى الطريق السيار، إضافة إلى عدد من النقط السوداء وسط المدينة التي تعرف اختناقا شبه دائم في حركة السير، تظل مناطق شديدة الحساسية مرورية دون أن يتم التفكير في إنجاز ممرات تحت أرضية أو مدارات كبرى متعددة الطوابق كما هو معمول به في مدن أخرى مثل طنجة والرباط والدار البيضاء. فاس، رغم وزنها الحضري والديمغرافي، لا تزال تفتقر إلى بنية مرورية حديثة تأخذ بعين الاعتبار تدفقات العربات واتساع الحركية اليومية، خصوصا مع تحول مداخلها إلى عنق زجاجة حضري يضاعف من أزمنة التنقل، ويؤثر سلبا على الإنتاجية وعلى جاذبية المدينة للاستثمار والسياحة. إن غياب الأنفاق والممرات التحت أرضية، رغم توفر الإمكانات المجالية لإنجازها، يعكس قصورا جليا في هندسة المرور الحضرية، ويكرّس تبعية المدينة لمنطق تقني محدود لا يراعي التوسع الزمني والحضري المستقبلي.
ولعل الأخطر من ذلك هو غياب أي إشارات أو دراسات معلنة توحي بإدماج وسائط النقل المستقبلية، مثل "الترامواي" أو "الباصواي"، في هندسة الأشغال الجارية. فالمجالات التي يجري إعادة تأهيلها تُنجز وكأن لا علاقة لها بمستقبل النقل الحضري المستدام، ولا اعتبار فيها لتحولات الطلب على التنقل الجماعي النظيف. كيف يعقل أن تُصرف ملايين الدراهم في تهيئة محاور طرقية من دون أن نرصد فيها أية مؤشرات على إدماج شبكات النقل المهيكل؟ ألا يُعد ذلك هدرا مزدوجا: للفرصة وللمال العام؟ إن العجز عن استباق حاجيات التنقل الحضري لمدينة يتجاوز عدد سكانها المليون، ويعرف توسعا عمرانيا مهولا، يكشف هشاشة في التقدير، وانعداما للرؤية الحضرية الشاملة التي تربط النقل، بالتنمية، بالبيئة، بجودة الحياة.
ما يفاقم من قتامة المشهد هو الافتقار الصارخ إلى المراقبة التقنية الصارمة، حيث يسود الانطباع بأن إنجاز الأشغال يخضع لمنطق السباق مع الزمن لا لمنطق الجودة والصرامة. تُفتح الأوراش فجأة، وتُغلق فجأة، في غياب لأي إشعارات واضحة، أو تنظيم احترازي لحركة السير، وأحيانا يتم تركها في وضع شبه منجز لأيام، ما يخلق اختناقا مروريا واختلالا في انتظام التنقلات الحضرية. أما ما يُنجز، فغالبا ما يعاني من عيوب تقنية ظاهرة، سواء على مستوى جودة المواد المستعملة، أو طريقة وضعها، أو مستوى التشطيب، ناهيك عن العيوب التي تبدأ بالظهور بعد أسابيع قليلة من نهاية الأشغال، ما يعكس تغيب المحاسبة وضعف المواكبة من لدن المصالح التقنية الجماعية والمراقبة الخارجية.
لا يبدو أن هناك حرصا حقيقيا على مطابقة الأشغال لمعايير دفتر التحملات، أو رغبة في استثمار هذه الأوراش كفرصة لتقوية الثقة في المؤسسات، أو التأسيس لثقافة عمرانية بديلة. بل على العكس، نجد أنفسنا أمام ورش مفتوح بلا بوصلة، تتقاطع فيه مصالح اللوبيات المقاولاتية، وحسابات الفاعلين السياسيين المحليين، مع غياب واضح لأي تأطير علمي لمفهوم التهيئة الحضرية، الذي لم يعد مجرد تهيئة سطحية، بل بناء معمار للمستقبل.
إن فاس، بما تختزنه من رمزية ثقافية وتاريخية، وما تحمله من إمكانيات تنموية واعدة، لا تستحق هذا المستوى من التدبير العشوائي، ولا هذا التبديد المسترسل لفرص الإنقاذ الحضري. تحتاج المدينة إلى رؤية استراتيجية شاملة، تستند إلى مخطط مديري صارم، ينبني على دراسات استشرافية متعددة التخصصات، ويؤسس لعدالة مجالية بين أحيائها، ويُدرج ضمن أولوياته بناء منظومة نقل حضرية مترابطة وعصرية، تنخرط فيها مختلف أدوات الهندسة الحضرية الحديثة.
دون ذلك، ستبقى فاس رهينة لمشاريع موسمية مفككة، تلتهم المال العام، وتنتج هشاشة مضاعفة، وتُقحم المدينة في دائرة مفرغة من الإصلاح والإصلاح المضاد، بينما تُدار مدن أخرى برؤية، وتُقاس نجاعة تهيئتها بنجاعة حياة سكانها.
يحمي القانون مجموعة المصالح الأساسية لمؤسسات الدولة، والأسس التي يقوم عليها المجتمع، سواء كانت هذه المصالح والأسس سياسية أو اجتماعية...
يوسف وفقير - الرباط أفاد بلاغ لرئاسة الحكومة أن مجلس الحكومة، المنعقد اليوم الخميس برئاسة السيد عزيز أخنوش، صادق على مجموعة من...
اشترك في النشرة الإخبارية لتصلك التحديثات الجديدة يوميًا
كن أول من يعلق على هذا المقال
احصل على آخر الأخبار والتحديثات مباشرة إلى بريدك الإلكتروني