الاثنين, 09 يونيو 2025
Bawabapress
مساحة إعلانية

من فاس إلى العالم: امتحان الجماهير في زمن التنظيم الحديث

السبت 07 يونيو 2025
من فاس إلى العالم: امتحان الجماهير في زمن التنظيم الحديث

بلقم: عبدالعزيز الخبشي


إذا كان نجاح التنظيم الأمني واللوجستي لمباراة المغرب وتونس الودية في فاس قد بعث برسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن المغرب قادر على احتضان تظاهرات كبرى بمعايير دولية، فإن الصورة لم تكتمل، ولم تسلم من شروخ ظلت تعكس مفارقات عميقة بين ما نطمح إليه وما نعيشه فعلياً، بين هندسة الدولة التنظيمية وبين لا وعي الجمهور وثقافته المتجذرة في زمن قديم لم يغادره بعد.


النجاح التنظيمي لا يمكن نكرانه. فالمشهد الخارجي للمركب الرياضي بفاس، والانسيابية الأمنية، وإدارة الحشود، كلها رسائل مشعة نحو المستقبل، وهي تمهيد واضح للرهانات الكبرى القادمة، وعلى رأسها كأس أفريقيا وكأس العالم. غير أن النواة الحقيقية لأي تنظيم رياضي ناجح لا تكمن في هندسة الممرات وتوزيع رجال الأمن فحسب، بل في بناء وعي جماهيري مدني يؤمن بقواعد الفرجة ويحترمها. وهنا تكمن المعضلة التي لم تُحل بعد، خصوصاً في مدينة مثل فاس، حيث يتبدى الفارق واضحاً بين بنية الملعب الحديثة وسلوك الجمهور المتجذر في منطق بدائي يرفض النظام ويحاربه، كأنه نتاجٌ لماضٍ لم تلمسه بعد رياح التغيير.


لقد كشفت المباراة عن واحدة من أقدم الأمراض التي تنخر تجربة الفرجة الجماهيرية في المغرب: غياب ثقافة احترام المقاعد المحجوزة. وكأن الزمن توقف عند عقليات السبعينات والثمانينات، حين كان الناس يتدافعون صوب المدرجات كما لو أن الملعب فضاء فوضوي مفتوح لكل من هبّ ودبّ. كيف يعقل أن تظل هذه السلوكيات قائمة في سنة 2025؟ في زمن الرقمنة، والتذكرة الإلكترونية، والمقعد المحدد برقم، تظل مظاهر التسلل، القفز فوق الحواجز، الجلوس في أماكن غير مخصصة، سلوكا سائداً وطبيعياً في نظر الكثيرين. هذا ليس مجرد خلل، بل هو مؤشر على وجود هوة حضارية بين البنية التحتية ورأس المال الرمزي للجماهير.


إن هذا الوضع يكشف عن عطب ثقافي عميق يتطلب جهداً جماعياً لتجاوزه، ليس من باب الوعظ الأخلاقي، بل من باب تفكيك بنية الوعي الشعبي الذي يربط الفضاء العام بالفوضى، ويقاوم النظام كأنه عدوّ، لا مكسب. في فاس، المدينة التي كانت ذات يوم مركز إشعاع فكري وحضاري، تظل تجربة الفرجة في الملاعب رهينة منطق الغلبة، والسبق، و"من دخل أولاً استولى على كل شيء"، وهو منطق لا يستقيم مع فلسفة الرياضة، ولا مع روح التنظيم الحديث، ولا مع العدالة التي تنبني على مبدأ: "لك ما دفعت، ولك مقعدك".


لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، بل تمتد إلى أسلوب الولوج إلى الملاعب، والذي يغيب فيه الحس الإنساني بشكل صارخ. فبدل أن تكون تجربة الدخول إلى الملعب تجربة سلسة، محكومة بأدوات التكنولوجيا الحديثة، فإنها تتحول إلى لحظة عسيرة، ينعدم فيها الحد الأدنى من الكرامة، حيث يتكدس الناس عند البوابات، وتُمارس عليهم أنواع من الضغط البدني والمعنوي، دون اعتبار لأعمارهم أو وضعياتهم. وكأننا بصدد امتحان صعب يُفرض على الجمهور قبل مشاهدة مباراة، امتحانٌ في التحمل والصبر، لا في الاستمتاع.


هنا تُطرح مسؤولية الدولة، ليس فقط من حيث التنظيم التقني، بل من حيث بناء العلاقة بين المواطن والفضاء العام. فالتنظيم لا يجب أن يكون قمعياً أو آلياً، بل إنسانياً قبل كل شيء. حين يتعامل المسؤول عن الحراسة مع الجماهير بمنطق الاستعلاء، ويرى فيهم مجرد "مزعجين"، فإنه بذلك يكرس العنف الرمزي الذي يزرع في الوجدان الشعبي نوعاً من الكره اتجاه المؤسسات، ويحول الفعل الترفيهي إلى معاناة.


وما يزيد من قتامة هذا المشهد هو ما أثير حول مسألة التذاكر، والتي تحولت من حق جماهيري إلى غنيمة حزبية تُوزع على الأتباع. لقد كان لبعض السياسيين نصيبٌ وافر من التذاكر، لم يُوزع على أساس الاستحقاق أو الشفافية، بل على أساس الولاء والانتماء. إنها فضيحة أخلاقية قبل أن تكون تنظيمية، تكشف عن استمرار عقلية الريع حتى في المجال الرياضي. فكيف يمكننا بناء ثقة الجمهور في المؤسسات إذا كان الحق في حضور مباراة يُفصل على مقاس الزبونية الحزبية؟ إن استخدام الرياضة في غير ما خُلقت له، وتوظيفها لتصفية الحسابات أو ترسيخ الولاءات، هو انحراف خطير يهدد المشروع الرياضي برمته، ويسيء إلى صورة البلاد في لحظة دقيقة من تاريخها.


من جهة أخرى، فإن ظاهرة دخول أشخاص دون تذاكر واحتلالهم مقاعد غيرهم، تضعف الثقة في المنظومة بأكملها، وتطرح علامات استفهام حقيقية حول نزاهة العملية برمتها. فهل نحن أمام اختراقات مغلفة بتعليمات فوقية؟ أم أن هناك تواطؤاً مصلحياً يُراد به إرضاء أطراف معينة على حساب جمهور دفع من ماله وانتظر لساعات كي يأخذ مكانه الطبيعي؟ إنها أسئلة لا يجب أن تمر مرور الكرام، لأنها تتعلق بمستقبل تظاهرات رياضية دولية سيحضر فيها العالم، وسيحكم علينا من خلال تفاصيل صغيرة كهذه.


لا يكفي أن نبني ملاعب جميلة، ولا أن نحشد قوات الأمن واللوجستيك. المطلوب هو إحداث ثورة في وعي الجماهير، وثورة في أخلاقيات الحراسة والتنظيم، وثورة في ربط التكنولوجيا بالاحترام والكرامة. فكما أن التنظيم أمنٌ وسلاسة، فهو أيضاً تربية، وإنسانية، وعدالة.


فاس كانت مختبراً صغيراً لاختبار الاستحقاقات الكبرى، لكنها أظهرت أن أمامنا الكثير من العمل. فلا معنى للتفاخر بالملاعب إن كان روادها لا يفهمون أبسط قواعد الجلوس في مقاعدهم، ولا معنى للتنظيم إن كانت البوابات شاهدة على إهانة جماعية ممنهجة، ولا معنى للعدالة إن كانت التذاكر أداة بيد السماسرة والسياسيين. هذه ليست تفاصيل، بل لبّ كل المعركة.


ما نحتاجه اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو أن نُدخل الجماهير في مدار الحداثة، لا عبر الخطب أو الدروس، بل عبر سياسات ثقافية وتربوية وفنية تعيد الاعتبار للعقل العام، وللقيم الجماعية التي تجعل من الفضاء العام مجالاً للمشاركة، لا للسطو. وحدها هذه الثورة في الوعي قادرة على جعل ملاعبنا تستحق فعلاً تنظيم كأس أفريقيا وكأس العالم.


مقالات ذات صلة

موسم اللحم ... في سوق البشرية
كتاب وآراء

موسم اللحم ... في سوق البشرية

بقلم: يوسف وفقير  يبدو أن اللحم، في هذه الأيام، لم يعد مجرد مادة غذائية تطهى على مهل فوق نار هادئة، بل تحول إلى كنز...

1 تعليقات
سوق البشرية: أضحية خارج القرار... أم عقل خارج اللحظة؟
كتاب وآراء

سوق البشرية: أضحية خارج القرار... أم عقل خارج اللحظة؟

بقلم: يوسف وفقير منذ حوالي شهر، صدر قرار ملكي استثنائي، واضح في لغته، نبيل في غايته، واقعي في توقيته: لا أضحية لعيد الأضحى هذا...

0 تعليقات

النشرة الإخبارية

اشترك في النشرة الإخبارية لتصلك التحديثات الجديدة يوميًا

نحن نحترم خصوصيتك. لن نشارك بريدك مع أي طرف ثالث.

تعليقات الزوار (0)

لا توجد تعليقات بعد

كن أول من يعلق على هذا المقال

أضف تعليقًا

سيتم مراجعة تعليقك قبل النشر

اتصال

  • إيموزار كندر، المغرب
  • +212 6 66 07 16 11 +212 5 35 66 37 42
  • bawaba.contact@gmail.com
بوابة بريس

اشترك في نشرتنا البريدية

احصل على آخر الأخبار والتحديثات مباشرة إلى بريدك الإلكتروني

جميع الحقوق محفوظة لموقع bawabapress.com © 2025
شروط الاستخدام سياسة الخصوصية تم إنشاء وإدارة الموقع بواسطة AppGeniusSARL